الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة؛ فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها، في الجماعات الحافلة.. وإن لها لشأناً.. إنها سورة رهيبة، شديدة الوقع بحقائقها، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري، وصورها وظلالها وجرس فواصلها. تأخذ على النفس أقطارها، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها، وتتعقبها في سرها وجهرها، وفي باطنها وظاهرها. تتعقبها برقابة الله، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد، إلى الممات، إلى البعث، إلى الحشر، إلى الحساب. وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة. تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقاً كاملاً شاملاً. فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبداً، ولا تغفل من أمره دقيقاً ولا جليلاً، ولا تفارقه كثيراً ولا قليلاً. كل نفس معدود. وكل هاجسة معلومة. وكل لفظ مكتوب. وكل حركة محسوبة. والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة، في كل وقت وفي كل حال. وكل هذه الحقائق معلومة. ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة، تروع الحس روعة المفاجأة؛ وتهز النفس هزاً، وترجها رجاً، وتثير فيها رعشة الخوف، وروعة الإعجاب، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب! وذلك كله إلى صور الحياة، وصور الموت، وصور البلى، وصور البعث، وصور الحشر. وإلى إرهاص الساعة في النفس وتوقعها في الحس. وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض، وفي الماء والنبت، وفي الثمر والطلع.. {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}.. وإنه ليصعب في مثل هذه السورة التلخيص والتعريف، وحكاية الحقائق والمعاني والصور والظلال، في غير أسلوبها القرآني الذي وردت فيه؛ وفي غير عبارتها القرآنية التي تشع بذاتها تلك الحقائق والمعاني والصور والظلال، إشعاعاً مباشراً للحس والضمير. فلنأخذ في استعراض السورة بذاتها.. والله المستعان.. {ق. والقرآن المجيد. بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم، فقال الكافرون: هذا شيء عجيب. أإذا متنا وكنا تراباً؟ ذلك رجع بعيد. قد علمنا ما تنقص الأرض منهم، وعندنا كتاب حفيظ. بل كذبوا بالحق لما جاءهم، فهم في أمر مريج. أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها؟ وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. ونزلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع نضيد. رزقاً للعباد، وأحيينا به بلدة ميتاً. كذلك الخروج}. {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود، وعاد وفرعون وإخوان لوط، وأصحاب الأيكة وقوم تُبَّع. كلٌ كذب الرسل فحق وعيد. أفعيينا بالخلق الأول؛ بل هم في لبس من خلق جديد}. هذا هو المقطع الأول في السورة. وهو يعالج قضية البعث، وإنكار المشركين له، وعجبهم من ذكره والقول به. ولكن القرآن لا يواجه إنكارهم لهذه القضية فيعالجه وحده. إنما هو يواجه قلوبهم المنحرفة ليردها أصلاً إلى الحق، ويقوّم ما فيها من عوج؛ ويحاول قبل كل شيء إيقاظ هذه القلوب وهزها لتتفتح على الحقائق الكبيرة في صلب هذا الوجود. ومن ثم لا يدخل معهم في جدل ذهني لإثبات البعث. وإنما يحيي قلوبهم لتتفكر هي وتتدبر، ويلمس وجدانهم ليتأثر بالحقائق المباشرة من حوله فيستجيب.. وهو درس يحسن أن ينتفع به من يحاولون علاج القلوب! وتبدأ السورة بالقسم. القسم بالحرف: «قاف» وبالقرآن المجيد، المؤلف من مثل هذا الحرف. بل إنه أول حرف في لفظ «قرآن».. ولا يذكر المقسم عليه. فهو قسم في ابتداء الكلام، يوحي بذاته باليقظة والاهتمام. فالأمر جلل، والله يبدأ الحديث بالقسم، فهو أمر إذن له خطر. ولعل هذا هو المقصود بهذا الابتداء. إذ يضرب بعده بحرف {بل} عن المقسم عليه- بعد أن أحدث القسم أثره في الحس والقلب- ليبدأ حديثاً كأنه جديد عن عجبهم واستنكارهم لما جاءهم به رسولهم في القرآن المجيد من أمر البعث والخروج: {بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم، فقال الكافرون: هذا شيء عجيب. أإذا متنا وكنا تراباً؟ ذلك رجع بعيد}. بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم. وما في هذا من عجب. بل هو الأمر الطبيعي الذي تتقبله الفطرة السليمة ببساطة وترحيب. الأمر الطبيعي أن يختار الله من الناس واحداً منهم، يحس بإحساسهم، ويشعر بشعورهم، ويتكلم بلغتهم، ويشاركهم حياتهم ونشاطهم، ويدرك دوافعهم وجواذبهم، ويعرف طاقتهم واحتمالهم، فيرسله إليهم لينذرهم ما ينتظرهم إن هم ظلوا فيما هم فيه؛ ويعلمهم كيف يتجهون الاتجاه الصحيح؛ ويبلغهم التكاليف التي يرفضها الاتجاه الجديد، وهو معهم أول من يحمل هذه التكاليف. ولقد عجبوا من الرسالة ذاتها، وعجبوا- بصفة خاصة- من أمر البعث الذي حدثهم عنه هذا المنذر أول ما حدثهم. فقضية البعث قاعدة أساسية في العقيدة الإسلامية. قاعدة تقوم عليها العقيدة ويقوم عليها التصور الكلي لمقتضيات هذه العقيدة. فالمسلم مطلوب منه أن يقوم على الحق ليدفع الباطل، وأن ينهض بالخير ليقضي على الشر، وأن يجعل نشاطه كله في الأرض عبادة لله، بالتوجه في هذا النشاط كله لله. ولا بد من جزاء على العمل. وهذا الجزاء قد لا يتم في رحلة الأرض. فيؤجل للحساب الختامي بعد نهاية الرحلة كلها. فلا بد إذن من عالم آخر، ولا بد إذن من بعث للحساب في العالم الآخر.. وحين ينهار أساس الآخرة في النفس ينهار معه كل تصور لحقيقة هذه العقيدة وتكاليفها؛ ولا تستقيم هذه النفس على طريق الإسلام أبداً. ولكن أولئك القوم لم ينظروا للمسألة من هذا الجانب أصلاً. إنما نظروا إليها من جانب آخر ساذج شديد السذاجة، بعيد كل البعد عن إدراك حقيقة الحياة والموت، وعن إدراك أي طرف من حقيقة قدرة الله. فقالوا {أإذا متنا وكنا تراباً؟ ذلك رجع بعيد} ! والمسألة إذن في نظرهم هي مسألة استبعاد الحياة بعد الموت والبلى. وهي نظرة ساذجة كما أسلفنا، لأن معجزة الحياة التي حدثت مرة يمكن أن تحدث مرة أخرى. كما أن هذه المعجزة تقع أمامهم في كل لحظة، وتحيط بهم في جنبات الكون كله. وهذا هو الجانب الذي قادهم إليه القرآن في هذه السورة. غير أننا قبل أن نمضي مع لمسات القرآن وآياته الكونية في معرض الحياة، نقف أمام لمسة البلى والدثور. التي تتمثل في حكاية قولهم والتعليق عليه: {أإذا متنا وكنا تراباً...؟}.. وإذن فالناس يموتون. وإذن فهم يصيرون تراباً. وكل من يقرأ حكاية قول المشركين يلتفت مباشرة إلى ذات نفسه، وإلى غيره من الأحياء حوله. يلتفت ليتصور الموت والبلى والدثور. بل ليحس دبيب البلى في جسده وهو بعد حي فوق التراب! وما كالموت يهز قلب الحي، وليس كالبلى يمسه بالرجفة والارتعاش. والتعقيب يعمق هذه اللمسة ويقوي وقعها؛ وهو يصور الأرض تأكل منهم شيئاً فشيئاً: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم، وعندنا كتاب حفيظ}.. لكأنما التعبير يجسم حركة الأرض ويحييها وهي تذيب أجسادهم المغيبة فيها، وتأكلها رويداً رويداً. ويصور أجسادهم وهي تتآكل باطراد وتبلى. ليقول: إن الله يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم، وهو مسجل في كتاب حفيظ؛ فهم لا يذهبون ضياعاً إذا ماتوا وكانوا تراباً. أما إعادة الحياة إلى هذا التراب، فقد حدثت من قبل، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي. وهكذا تتوالى اللمسات التي تذيب القلوب وترققها، وتدعها حساسة متوفزة جيدة الاستقبال. وذلك قبل البدء في الهجوم على القضية ذاتها! ثم يكشف عن حقيقة حالهم التي تنبعث منها تلك الاعتراضات الواهية. ذلك أنهم تركوا الحق الثابت، فمادت الأرض من تحتهم، ولم يعودوا يستقرون على شيء أبداً: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم، فهم في أمر مريج}. وإنه لتعبير فريد مصور مشخص لحال من يفارقون الحق الثابت، فلا يقر لهم من بعده قرار.. إن الحق هو النقطة الثابتة التي يقف عليها من يؤمن بالحق فلا تتزعزع قدماه، ولا تضطرب خطاه، لأن الأرض ثابتة تحت قدميه لا تتزلزل ولا تخسف ولا تغوص. وكل ما حوله- عدا الحق الثابت- مضطرب مائج مزعزع مريج، لا ثبات له ولا استقرار، ولا صلابة له ولا احتمال. فمن تجاوز نقطة الحق الثابتة زلت قدماه في ذلك المضطرب المريج، وفقد الثبات والاستقرار، والطمأنينة والقرار. فهو أبداً في أمر مريج لا يستقر على حال! ومن يفارق الحق تتقاذفه الأهواء، وتتناوحه الهواجس، وتتخاطفه الهواتف، وتمزقه الحيرة، وتقلقه الشكوك. ويضطرب سعيه هنا وهناك، وتتأرجح مواقفه إلى اليمين وإلى الشمال. وهو لا يلوذ من حيرته بركن ركين، ولا بملجأ أمين.. فهو في أمر مريج.. إنه تعبير عجيب، يجسم خلجات القلوب، وكأنها حركة تتبعها العيون! واستطراداً مع إيقاع الحق الثابت المستقر الراسي الشامخ- وفي الطريق إلى مناقشة اعتراضهم على حقيقة البعث- يعرض بعض مظاهر الحق في بناء الكون؛ فيوجه أنظارهم إلى السماء وإلى الأرض وإلى الرواسي، وإلى الماء النازل من السماء، وإلى النخل الباسقات، وإلى الجنات والنبات. في تعبير يتناسق مع صفة الحق الثابت الراسي.. الجميل.. {أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها؟ وما لها من فروج}.. إن هذه السماء صفحة من كتاب الكون تنطق بالحق الذي فارقوه. أفلم ينظروا إلى ما فيها من تشامخ وثبات واستقرار؟ وإلى ما فيها بعد ذلك من زينة وجمال وبراءة من الخلل والاضطراب! إن الثبات والكمال والجمال هي صفة السماء التي تتناسق مع السياق هنا. مع الحق وما فيه من ثبات وكمال وجمال. ومن ثم تجيء صفة البناء وصفة الزينة وصفة الخلو من الثقوب والفروج. وكذلك الأرض صفحة من كتاب الكون القائم على الحق المستقر الأساس الجميل البهيج: {والأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج}.. فالامتداد في الأرض والرواسي الثابتات والبهجة في النبات.. تمثل كذلك صفة الاستقرار والثبات والجمال، التي وجه النظر إليها في السماء. وعلى مشهد السماء المبنية المتطاولة الجميلة، والأرض الممدودة الراسية البهيجة يلمس قلوبهم، ويوجهها إلى جانب من حكمة الخلق، ومن عرض صفحات الكون: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}.. تبصرة تكشف الحجب، وتنير البصيرة، وتفتح القلوب، وتصل الأرواح بهذا الكون العجيب، وما وراءه من إبداع وحكمة وترتيب.. تبصرة ينتفع بها كل عبد منيب، يرجع إلى ربه من قريب. وهذه هي الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون الهائل الجميل. هذه هي الوصلة التي تجعل للنظر في كتاب الكون، والتعرف إليه أثراً في القلب البشري، وقيمة في الحياة البشرية. هذه هي الوصلة التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم وبين الإنسان الذي يعرف ويعلم. وهي التي تهملها مناهج البحث التي يسمونها «علمية» في هذا الزمان. فتقطع ما وصل الله من وشيجة بين الناس والكون الذي يعيشون فيه. فالناس قطعة من هذا الكون لا تصح حياتهم ولا تستقيم إلا حين تنبض قلوبهم على نبض هذا الكون؛ وإلا حين تقوم الصلة وثيقة بين قلوبهم وإيقاعات هذا الكون الكبير. وكل معرفة بنجم من النجوم، أو فلك من الأفلاك، أو خاصة من خواص النبات والحيوان، أو خواص الكون كله على وجه الإجمال وما فيه من عوالم حية وجامدة إذا كانت هنالك عوالم جامدة أو شيء واحد جامد في هذا الوجود!- كل معرفة «علمية» يجب أن تستحيل في الحال إلى إيقاع في القلب البشري، وإلى ألفة مؤنسة بهذا الكون، وإلى تعارف يوثق أواصر الصداقة بين الناس والأشياء والأحياء. وإلى شعور بالوحدة التي تنتهي إلى خالق هذا الكون وما فيه ومن فيه.. وكل معرفة أو علم أو بحث يقف دون هذه الغاية الحية الموجهة المؤثرة في حياة البشر، هي معرفة ناقصة، أو علم زائف، أو بحث عقيم! إن هذا الكون هو كتاب الحق المفتوح، الذي يقرأ بكل لغة، ويدرك بكل وسيلة؛ ويستطيع أن يطالعه الساذج ساكن الخيمة والكوخ، والمتحضر ساكن العمائر والقصور. كل يطالعه بقدر إدراكه واستعداده، فيجد فيه زاداً من الحق، حين يطالعه بشعور التطلع إلى الحق. وهو قائم مفتوح في كل آن: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}.. ولكن العلم الحديث يطمس هذه التبصرة أو يقطع تلك الوشيجة بين القلب البشري والكون الناطق المبين. لأنه في رؤوس مطموسة رانت عليها خرافة «المنهج العلمي». المنهج الذي يقطع ما بين الكون والخلائق التي تعيش فيه! والمنهج الإيماني لا ينقص شيئاً من ثمار «المنهج العلمي» في إدراك الحقائق المفردة. ولكنه يزيد عليه ربط هذه الحقائق المفردة بعضها ببعض، وردها إلى الحقائق الكبرى، ووصل القلب البشري بها، أي وصله بنواميس الكون وحقائق الوجود، وتحويل هذه النواميس والحقائق إلى إيقاعات مؤثرة في مشاعر الناس وحياتهم؛ لا معلومات جامدة جافة متحيزة في الأذهان لا تفضي لها بشيء من سرها الجميل! والمنهج الإيماني هو الذي يجب أن تكون له الكرة في مجال البحوث والدراسات ليربط الحقائق العلمية التي يهتدي إليها بهذا الرباط الوثيق.. وبعد هذه اللفتة يمضي في عرض صفحات الحق في كتاب الكون- في طريقه إلى قضية الإحياء والبعث: {ونزلنا من السمآء مآء مباركاً، فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات لها طلع نضيد. رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً. كذلك الخروج}.. والماء النازل من السماء آية تحيي موات القلوب قبل أن تحيي موات الأرض. ومشهده ذو أثر خاص في القلب لا شك فيه. وليس الأطفال وحدهم هم الذين يفرحون بالمطر ويطيرون له خفافاً. فقلوب الكبار الحساسين تستروح هذا المشهد وتصفق له كقلوب الأطفال الأبرياء، القريبي العهد بالفطرة! ويصف الماء هنا بالبركة، ويجعله في يد الله سبباً لإنبات جنات الفاكهة وحب الحصيد- وهو النبات المحصود- ومما ينبته به النخل. ويصفها بالسموق والجمال: {والنخل باسقات لها طلع نضيد}.. وزيادة هذا الوصف للطلع مقصودة لإبراز جمال الطلع المنضد في النخل الباسق. وذلك تمشياً مع جو الحق وظلاله. الحق السامق الجميل. ويلمس القلوب وهو يمتن عليها بالماء والجنات والحب والنخل والطلع: {رزقاً للعباد}.. رزقاً يسوق الله سببه، ويتولى نبته، ويطلع ثمره، للعباد، وهو المولى، وهم لا يقدرون ولا يشكرون! وهنا ينتهي بموكب الكون كله إلى الهدف الأخير: {وأحيينا به بلدة ميتا. كذلك الخروج}.. فهي عملية دائمة التكرار فيما حولهم، مألوفة لهم؛ ولكنهم لا ينتبهون إليها ولا يلحظونها قبل الاعتراض والتعجيب.. كذلك الخروج.. على هذه الوتيرة، وبهذه السهولة.. الآن يقولها وقد حشد لها من الإيقاعات الكونية على القلب البشري ذلك الحشد الطويل الجميل المؤثر الموحي لكل قلب منيب.. وكذلك يعالج القلوب خالق القلوب.. ثم يعقب بعرض صفحات من كتاب التاريخ البشري بعد عرض تلك الصفحات من كتاب الكون، تنطق بمآل المكذبين الذين ماروا كما يماري هؤلاء المشركون في قضية البعث، وكذبوا كما يكذبون بالرسل، فحق عليهم وعيد الله الذي لا مفر منه ولا محيد: {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود، وعاد وفرعون وإخوان لوط، وأصحاب الأيكة، وقوم تُبَّع. كلٌ كذب الرسل فحق وعيد. أفعيينا بالخلق الأول؟ بل هم في لبس من خلق جديد}.. والرس: البئر: المطوية غير المبنية. والأيكة: الشجر الملتف الكثيف. وأصحاب الأيكة هم- في الغالب- قوم شعيب. أما أصحاب الرس فلا بيان عنهم غير هذه الإشارة. وكذلك قوم تبع. وتبع لقب لملوك حمير باليمن. وبقية الأقوام المشار إليهم هنا معروفون لقارئ القرآن. وواضح أن الغرض من هذه الإشارة السريعة ليس تفصيل أمر هذه الأقوام. ولكنه إيقاع على القلوب بمصارع الغابرين. حين كذبوا الرسل. والذي يلفت النظر هو النص على أن كلاً منهم كذب الرسل: {كل كذب الرسل فحق وعيد}. وهي لفتة مقصودة لتقرير وحدة العقيدة ووحدة الرسالة. فكل من كذب برسول فقد كذب بالرسل أجمعين؛ لأنه كذب بالرسالة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعون. والرسل إخوة وأمة واحدة وشجرة ضاربة الجذور في أعماق الزمان، وكل فرع من تلك الشجرة تلخيص لخصائصها، وصورة منها. ومن يمس منها فرعاً فقد مس الأصل وسائر الفروع.. {فحق وعيد} ونالهم ما يعرف السامعون! وفي ظل هذه المصارع يعود إلى القضية التي بها يكذبون. قضية البعث من جديد. فيسأل: {أفعيينا بالخلق الأول؟}.. والخلق شاهد حاضر فلا حاجة إلى جواب! {بل هم في لبس من خلق جديد}.. غير ناظرين إلى شهادة الخلق الأول الموجود! فماذا يستحق من يكذب وأمامه ذلك الشاهد المشهود؟! {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}. {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد..} {ونفخ في الصور، ذلك يوم الوعيد. وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد. لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد. وقال قرينه: هذا ما لدي عتيد. ألقيا في جهنم كل كفار عنيد. منّاع للخير معتد مريب. الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد. قال قرينه: ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد. قال: لا تختصموا لدي وقت قدمت إليكم بالوعيد. ما يبدل القول لديَّ وما أنا بظلام للعبيد. يوم نقول لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول هل من مزيد؟ وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب. ادخلوها بسلام، ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}.. وهذا هو المقطع الثاني في السورة: استطراد مع قضية البعث، التي عالجها الشوط الأول؛ وعلاج للقلوب المكذبة بلمسات جديدة، ولكنها رهيبة مخيفة. إنها تلك الرقابة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة. ومشاهدها التي تمثلها وتشخصها. ثم مشهد الموت وسكراته. ثم مشهد الحساب وعرض السجلات. ثم مشهد جهنم فاغرة فاها تتلمظ كلما ألقي فيها وقودها البشري تقول: {هل من مزيد؟}. وإلى جواره مشهد الجنة والنعيم والتكريم. إنها رحلة واحدة تبدأ من الميلاد، وتمر بالموت، وتنتهي بالبعث والحساب. رحلة واحدة متصلة بلا توقف؛ ترسم للقلب البشري طريقه الوحيد الذي لا فكاك عنه ولا محيد؛ وهو من أول الطريق إلى آخره في قبضة الله لا يتملص ولا يتفلت، وتحت رقابته التي لا تفتر ولا تغفل. وإنها لرحلة رهيبة تملأ الحس روعة ورهبة. وكيف بإنسان في قبضة الجبار، المطلع على ذات الصدور؟ وكيف بإنسان طالبه هو الواحد الديان، الذي لا ينسى ولا يغفل ولا ينام! إنه ليرجف ويضطرب ويفقد توازنه وتماسكه، حين يشعر أن السلطان في الأرض يتتبعه بجواسيسه وعيونه، ويراقبه في حركته وسكونه. وسلطان الأرض مهما تكن عيونه لا يراقب إلا الحركة الظاهرة. وهو يحتمي منه إذا آوى إلى داره، وإذا أغلق عليه بابه، أو إذا أغلق فمه! أما قبضة الجبار فهي مسلطة عليه أينما حل وأينما سار. وأما رقابة الله فهي مسلطة على الضمائر والأسرار.. فكيف؟ كيف بهذا الإنسان في هذه القبضة وتحت هذه الرقابة؟! {ولقد خلقنا الإنسان، ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.. إن ابتداء الآية: {ولقد خلقنا الإنسان}.. يشير إلى المقتضى الضمني للعبارة. فصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها. وهو ليس بخالقها لأنه لم ينشئ مادتها، ولم يزد على تشكيلها وتركيبها. فكيف بالمنشئ الموجد الخالق؟ إن الإنسان خارج من يد الله أصلاً؛ فهو مكشوف الكنه والوصف والسر لخالقه العليم بمصدره ومنشئه وحاله ومصيره. {ونعلم ما توسوس به نفسه}.. وهكذا يجد الإنسان نفسه مكشوفة لا يحجبها ستر، وكل ما فيها من وساوس خافتة وخافية معلوم لله، تمهيداً ليوم الحساب الذي ينكره ويجحده! {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}.. الوريد الذي يجري فيه دمه. وهو تعبير يمثل ويصور القبضة المالكة، والرقابة المباشرة. وحين يتصور الإنسان هذه الحقيقة لا بد يرتعش ويحاسب. ولو استحضر القلب مدلول هذه العبارة وحدها ما جرؤ على كلمة لا يرضى الله عنها. بل ما جرؤ على هاجسة في الضمير لا تنال القبول. وإنها وحدها لكافية ليعيش بها الإنسان في حذر دائم ويقظة لا تغفل عن المحاسبة. ولكن القرآن يستطرد في إحكام الرقابة. فإذا الإنسان يعيش ويتحرك وينام ويأكل ويشرب ويتحدث ويصمت ويقطع الرحلة كلها بين ملكين موكلين به، عن اليمين وعن الشمال، يتلقيان منه كل كلمة وكل حركة ويسجلانها فور وقوعها: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}. أي رقيب حاضر، لا كما يتبادر إلى الأذهان أن اسمي الملكين رقيب، وعتيد! ونحن لا ندري كيف يسجلان. ولا داعي للتخيلات التي لا تقوم على أساس. فموقفنا بإزاء هذه الغيبيات أن نتلقاها كما هي، ونؤمن بمدلولها دون البحث في كيفيتها، التي لا تفيدنا معرفتها في شيء. فضلاً على أنها غير داخلة في حدود تجاربنا ولا معارفنا البشرية. ولقد عرفنا نحن- في حدود علمنا البشري الظاهر- وسائل للتسجيل لم تكن تخطر لأجدادنا على بال. وهي تسجل الحركة والنبرة كالأشرطة الناطقة وأشرطة السينما وأشرطة التليفزيون. وهذا كله في محيطنا نحن البشر. فلا داعي من باب أولى أن نقيد الملائكة بطريقة تسجيل معينة مستمدة من تصوراتنا البشرية المحدودة، البعيدة نهائياً عن ذلك العالم المجهول لنا، والذي لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به الله. بلا زيادة! وحسبنا أن نعيش في ظلال هذه الحقيقة المصورة، وأن نستشعر ونحن نهم بأية حركة وبأية كلمة أن عن يميننا وعن شمالنا من يسجل علينا الكلمة والحركة؛ لتكون في سجل حسابنا. بين يدي الله الذي لا يضيع عنده فتيل ولا قطمير. حسبنا أن نعيش في ظل هذه الحقيقة الرهيبة. وهي حقيقة. ولو لم ندرك نحن كيفيتها. وهي كائنة في صورة ما من الصور، ولا مفر من وجودها، وقد أنبأنا الله بها لنحسب حسابها. لا لننفق الجهد عبثاً في معرفة كيفيتها! والذين انتفعوا بهذا القرآن، وبتوجيهات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الخاصة بحقائق القرآن، كان هذا سبيلهم: أن يشعروا، وأن يعملوا وفق ما شعروا.. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبيه عن جده علقمة، عن بلال بن الحارث المزني- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه». قال: فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال ابن الحارث. (ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث محمد بن عمرو به وقال الترمذي: حسن صحيح). وحكي عن الإمام أحمد أنه كان في سكرات الموت يئن. فسمع أن الأنين يكتب. فسكت حتى فاضت روحه رضوان الله عليه. وهكذا كان أولئك الرجال يتلقون هذه الحقيقة فيعيشون بها في يقين. تلك صفحة الحياة، ووراءها في كتاب الإنسان صفحة الاحتضار: {وجاءت سكرة الموت بالحق. ذلك ما كنت منه تحيد}.. والموت أشد ما يحاول المخلوق البشري أن يروغ منه، أو يبعد شبحه عن خاطره. ولكن أنى له ذلك: والموت طالب لا يمل الطلب، ولا يبطئ الخطى، ولا يخلف المعياد؛ وذكر سكرة الموت كفيل برجفة تدب في الأوصال! وبينما المشهد معروض يسمع الإنسان: {ذلك ما كنت منه تحيد}. وإنه ليرجف لصداها وهو بعد في عالم الحياة! فكيف به حين تقال له وهو يعاني السكرات! وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: «سبحان الله. إن للموت لسكرات». يقولها وهو قد اختار الرفيق الأعلى واشتاق إلى لقاء الله. فكيف بمن عداه؟ ويلفت النظر في التعبير ذكر كلمة الحق: {وجاءت سكرة الموت بالحق}.. وهي توحي بأن النفس البشرية ترى الحق كاملاً وهي في سكرات الموت. تراه بلا حجاب، وتدرك منه ما كانت تجهل وما كانت تجحد، ولكن بعد فوات الأوان حين لا تنفع رؤية، ولا يجدي إدراك، ولا تقبل توبة، ولا يحسب إيمان. وذلك الحق هو الذي كذبوا به فانتهوا إلى الأمر المريج!.. وحين يدركونه ويصدقون به لا يجدي شيئاً ولا يفيد! ومن سكرة الموت، إلى وهلة الحشر، وهول الحساب: {ونفخ في الصور، ذلك يوم الوعيد، وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد. لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطآءك، فبصرك اليوم حديد. وقال قرينه: هذا ما لدي عتيد. ألقيا في جهنم كل كفار عنيد. منّاع للخير معتد مريب. الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد. قال قرينه: ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد. قال: لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد. ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد}. وهو مشهد يكفي استحضاره في النفس لتقضي رحلتها كلها على الأرض في توجس وحذر وارتقاب. وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له؟» قالوا: يا رسول الله، كيف نقول؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل» فقال القوم: حسبنا الله ونعم الوكيل.. {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد}.. جاءت كل نفس. فالنفس هنا هي التي تحاسب، وهي التي تتلقى الجزاء. ومعها سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها. قد يكونان هما الكاتبان الحافظان لها في الدنيا. وقد يكونان غيرهما. والأول أرجح. وهو مشهد أشبه شيء بالسوق للمحاكمة. ولكن بين يدي الجبار. وفي هذا الموقف العصيب يقال له: {لقد كنت في غفلة من هذا. فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}.. قوي لا يحجبه حجاب، وهذا هو الموعد الذي غفلت عنه، وهذا هو الموقف الذي لم تحسب حسابه، وهذه هي النهاية التي كنت لا تتوقعها. فالآن فانظر. فبصرك اليوم حديد! هنا يتقدم قرينه. والأرجح أنه الشهيد الذي يحمل سجل حياته: {وقال قرينه هذا ما لدي عتيد}.. حاضر مهيأ معد. لا يحتاج إلى تهيئة أو إعداد! ولا يذكر السياق شيئاً عن مراجعة هذا السجل تعجيلاً بتوقيع الحكم وتنفيذه. إنما يذكر مباشرة النطق العلوي الكريم، للملكين الحافظين: السائق والشهيد: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد. مناع للخير معتد مريب. الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد}.. وذكر هذه النعوت يزيد في حرج الموقف وشدته. فهو دلالة غضب الجبار القهار في الموقف العصيب الرهيب؛ وهي نعوت قبيحة مستحقة لتشديد العقوبة: كفار. عنيد. مناع للخير. معتد. مريب. الذي جعل مع الله إلهاً آخر. وتنتهي بتوكيد الأمر الذي لا يحتاج إلى توكيد: {فألقياه في العذاب الشديد} بياناً لمكانه من جهنم التي بدأ الأمر بإلقائه فيها. عندئذ يفزع قرينه ويرتجف، ويبادر إلى إبعاد ظل التهمة عن نفسه، بما أنه كان مصاحباً له وقريناً: {قال قرينه: ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد}.. وربما كان القرين هنا غير القرين الأول الذي قدم السجلات. ربما كان هو الشيطان الموكل به ليغويه. وهو يتبرأ من إطغائه؛ ويقرر أنه وجده ضالاً من عند نفسه، فاستمع لغوايته! وفي القرآن مشاهد مشابهة يتبرأ فيها القرين الشيطاني من القرين الإنساني على هذا النحو. على أن الفرض الأول غير مستبعد. فقد يكون القرين هو الملك صاحب السجل. ولكن هول الموقف يجعله يبادر إلى التبرؤ- وهو بريء- ليبين أنه مع صحبته لهذا الشقي- فإنه لم تكن له يد في أي مما كان منه. وتبرؤ البريء أدل على الهول المزلزل والكرب المخيف. هنا يجيء القول الفصل، فينهي كل قول: {قال: لا تختصموا لديّ وقد قدمت إليكم بالوعيد- ما يبدل القول لديّ وما أنا بظلاّم للعبيد}.. فالمقام ليس له مقام اختصام. وقد سبق الوعيد محدداً جزاء كل عمل. وكل شيء مسجل لا يبدل. ولا يجزى أحد إلا بما هو مسجل. ولا يظلم أحد، فالمجازي هو الحكم العدل. بهذا ينتهي مشهد الحساب الرهيب بهوله وشدته؛ ولكن المشهد كله لا ينتهي. بل يكشف السياق عن جانب منه مخيف: {يوم نقول لجهنم: هل امتلأت: وتقول: هل من مزيد؟}. إن المشهد كله مشهد حوار. فتعرض جهنم فيه في معرض الحوار وبهذا السؤال والجواب يتجلى مشهد عجيب رهيب.. هذا هو كل كفار عنيد. مناع للخير معتد مريب.. هؤلاء هم كثرة تقذف في جهنم تباعاً، وتتكدس ركاماً. ثم تنادى جهنم: {هل امتلأت؟} واكتفيت! ولكنها تتلمظ وتتحرق، وتقول في كظة الأكول النهم: {هل من مزيد؟!}.. فيا للهول الرعيب! وعلى الضفة الأخرى من هذا الهول مشهد آخر وديع أليف، رضيّ جميل. إنه مشهد الجنة، تقرب من المتقين، حتى تتراءى لهم من قريب، مع الترحيب والتكريم: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب. ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود. لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}. والتكريم في كل كلمة وفي كل حركة. فالجنة تقرب وتزلف، فلا يكلفون مشقة السير إليها، بل هي التي تجيء: {غير بعيد} ! ونعيم الرضى يتلقاهم مع الجنة: {هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب}.. فيوصفون هذه الصفة من الملأ الأعلى، ويعلمون أنهم في ميزان الله أوابون، حفيظون، يخشون الرحمن ولم يشهدوه، منيبون إلى ربهم طائعون. ثم يؤذن لهم بالدخول بسلام لغير ما خروج: {ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود}.. ثم يؤذن في الملأ الأعلى، تنويهاً بشأن القوم، وإعلاناً بما لهم عند ربهم من نصيب غير محدود: {لهم ما يشاءون فيها، ولدينا مزيد}.. فمهما اقترحوا فهم لا يبلغون ما أعد لهم. فالمزيد من ربهم غير محدود.. ثم يجيء المقطع الأخير في السورة، كأنه الإيقاع الأخير في اللحن، يعيد أقوى نغماته في لمس سريع. فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين. وفيه لمسة الكون المفتوح وكتابه المبين. وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد. ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي العميق للمشاعر والقلوب: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً، فنقَّبوا في البلاد هل من محيص؟ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب. فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. ومن الليل فسبحه وأدبار السجود. واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب. يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج. إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير. يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً. ذلك حشر علينا يسير. نحن أعلم بما يقولون، وما أنت عليهم بجبار، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}.. ومع أن هذه اللمسات كلها قد سبقت في سياق السورة، إلا أنها حين تعرض في الختام تعرض جديدة الإيقاع جديدة الوقع. بهذا التركيز وبهذه السرعة. ويكون لها في الحس مذاق آخر غير مذاقها وهي مبسوطة مفصلة من قبل في السورة. وهذه هي خصيصة القرآن العجيبة! قال من قبل: {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود، وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع. كل كذب الرسل فحق وعيد}.. وقال هنا: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً، فنقبوا في البلاد. هل من محيص}؟ الحقيقة التي يشير إليها هي هي. ولكنها في صورتها الجديدة غيرها في صورتها الأولى. ثم يضيف إليها حركة القرون وهي تتقلب في البلاد، وتنقب عن أسباب الحياة، وهي مأخوذة في القبضة التي لا يفلت منها أحد، ولا مفر منها ولا فكاك: ف {هل من محيص}؟.. وعقب عليها بما يزيدها جدة وحيوية: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد}.. وفي مصارع الغابرين ذكرى. ذكرى لمن كان له قلب. فمن لا تذكره هذه اللمسة فهو الذي مات قلبه أو لم يرزق قلباً على الإطلاق! لا بل إنه ليكفي للذكرى والاعتبار أن يكون هناك سمع يلقى إلى القصة بإنصات ووعي، فتفعل القصة فعلها في النفوس.. وإنه للحق. فالنفس البشرية شديدة الحساسية بمصارع الغابرين، وأقل يقظة فيها وأقل تفتح كافيان لاستجاشة الذكريات والتصورات الموحية في مثل هذه المواقف المؤثرة المثيرة. وعرض من قبل صفحات من كتاب الكون: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج}.. وقال هنا: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وما مسنا من لغوب}.. فأضاف هذه الحقيقة الجديدة إلى جانب اللمسة الأولى. حقيقة: {وما مسنا من لغوب}.. وهي توحي بيسر الخلق والإنشاء في هذا الخلق الهائل. فكيف بإحياء الموتى وهو بالقياس إلى السماوات والأرض أمر هين صغير؟ وعقب عليها كذلك بإيحاء جديد وظل جديد: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. ومن الليل فسبحه وأَدبار السجود}.. وطلوع الشمس وغروبها ومشهد الليل الذي يعقب الغروب.. كلها ظواهر مرتبطة بالسماوات والأرض. وهو يربط إليها التسبيح والحمد والسجود ويتحدث في ظلالها عن الصبر على ما يقولون من إنكار للبعث وجحود بقدرة الله على الإحياء والإعادة.
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)} هذه السورة ذات جو خاص. فهي تبدأ بذكر قوى أربعة.. من أمر الله.. في لفظ مبهم الدلالة، يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر. يقسم الله- تعالى على أمر: {والذاريات ذروا، فالحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، فالمقسمات أمرا. إن ما توعدون لصادق. وإن الدين لواقع}.. والذاريات. والحاملات. والجاريات. والمقسمات.. مدلولاتها ليست متعارفة، وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار، كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل. ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة. وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماء: {والسماء ذات الحبك}.. يقسم بها الله تعالى. على أمر: {إنكم لفي قول مختلف}.. لا استقرار له ولا تناسق فيه، قائم على التخرصات والظنون، لا على العلم واليقين.. هذه السورة: بافتتاحها على هذا النحو، ثم بسياقها كله، تستهدف أمراً واضحاً في سياقها كله.. ربط القلب البشري بالسماء؛ وتعليقه بغيب الله المكنون؛ وتخليصه من أوهاق الأرض، وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله، والانطلاق إليه جملة، والفرار إليه كلية، استجابة لقوله في السورة: {ففروا إلى الله}.. وتحقيقاً لإرادته في عباده: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.. ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقط عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره، وتطمين النفس من جهته، وتعليق القلب بالسماء في شأنه، لا بالأرض وأسبابها القريبة. وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها. إما مباشرة كقوله: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}.. {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.. وإما تعريضاً كقوله يصور حال عباده المتقين مع المال: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}.. ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه القلائل- أو من حسبهم ضيوفه من الملائكة- بعجل سمين، يسارع به إليهم عقب وفودهم إليه، وبمجرد إلقاء السلام عليه، وهو لم يعرفهم إلا منذ لحظة! فتخليص القلب من أوهاق الأرض، وإطلاقه من إسار الرزق، وتعليقه بالسماء، ترف أشواقه حولها، ويتطلع إلى خالقها في علاه، بلا عائق يحول بينه وبين الانطلاق، ويعوقه عن الفرار إلى الله. هو محور السورة بكل موضوعاتها وقضاياها التي تطرقها. ومن ثم كان هذا الافتتاح، وكان ذلك الإيقاع الغامض في أولها، وكان القسم بعده بالسماء، وكان تكرار الإشارة إلى السماء أيضاً.. وفي هذا كانت صورة المتقين التي يرسمها في مطلع السورة: {إن المتقين في جنات وعيون. آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين. كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون. وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}.. فهي صورة التطلع إلى الله، والتجرد له، والقيام في عبادته بالليل، والتوجه إليه في الأسحار. ومع إرخاص المال، والتخلص من ضغطه، وجعل نصيب السائل والمحروم حقاً فيه. وفي هذا كان التوجيه إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس مع تعليق القلوب بالسماء في شأن الرزق، لا بالأرض وما فيها من أسبابه القريبة: {وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون. وفي السماء رزقكم وما توعدون}.. وفي هذا كانت الإشارة إلى بناء الله للسماء على سعة، وتمهيده للأرض في يسر، وخلقه ما فيها من أزواج، والتعقيب على هذا كله بالفرار إلى الله: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون. والأرض فرشناها فنعم الماهدون. ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون. ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين}.. وفي هذا كان الإيقاع الأخير البارز في السورة، عن إرادة الله سبحانه في خلق الجن والإنس، ووظيفتهما الرئيسية الأولى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.. فهو إيقاع واحد مطرد. ذو نغمات متعددة. ولكنها كلها تؤلف ذلك الإيقاع، وتطلق ذلك الحداء. الحداء بالقلب البشري إلى السماء! وقد وردت إشارات سريعة إلى حلقة من قصة إبراهيم ولوط، وقصة موسى، وقصة عاد، وقصة ثمود، وقصة قوم نوح، وفي الإشارة إلى قصة إبراهيم تلك اللمحة عن المال؛ كما أن فيها لمحة عن الغيب المكنون في تبشيره بغلام عليم، ورزقه هو وامرأته به على غير ما توقع ولا انتظار. وفي بقية القصص إشارة إلى تصديق وعد الله الذي أقسم عليه في أول السورة: {إن ما توعدون لصادق} والذي أشار إليه في ختامها إنذاراً للمشركين: {فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون}.. بعد ما ذكر أن أجيال المكذبين كأنما تواصت على التكذيب: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا: ساحر أو مجنون. أتواصوا به؟ بل هم قوم طاغون!}.. فالقصص في السورة- على هذا النحو- مرتبط بموضوعها الأصيل. وهو تجريد القلب لعبادة الله، وتخليصه من جميع العوائق، ووصله بالسماء. بالإيمان أولاً واليقين. ثم برفع الحواجز والشواغل دون الرفرفة والانطلاق إلى ذلك الأفق الكريم. {والذاريات ذروا، فالحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، فالمقسمات أمرا.. إن ما توعدون لصادق، وإن الدين لواقع}.. هذه الإيقاعات القصيرة السريعة، بتلك العبارات الغامضة الدلالة، تلقي في الحس- كما تقدم- إيحاء خاصاً، وتلقي ظلاً معيناً، يعلق القلب بأمر ذي بال، وشأن يستحق الانتباه. وقد احتاج غير واحد في العهد الأول أن يستفسر عن مدلول الذاريات، والحاملات، والجاريات، والمقسمات.. قال ابن كثير في التفسير: قال شعبة بن الحجاج، عن سماك بن خالد بن عرعرة، أنه سمع علياً- رضي الله عنه- وشعبة أيضاً عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، أنه سمع علياً- رضي الله عنه- وثبت أيضاً من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنه صعد منبر الكوفة فقال: لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا أنبأتكم بذلك. فقام ابن الكواء، فقال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قوله تعالى: {والذاريات ذروا}؟ قال علي- رضي الله عنه: الريح. قال: {فالحاملات وقرا}؟ قال- رضي الله عنه-: السحاب. قال: {فالجاريات يسرا}؟ قال- رضي الله عنه-: السفن. قال: {فالمقسمات أمرا}؟ قال- رضي الله عنه-: الملائكة. وجاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فسأله عنها فأجابه بمثل ما روي عن علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- وقد أحس عمر- رضي الله عنه- أنه يسأل عنها تعنتاً وعناداً فعاقبه ومنعه من مجالسة الناس حتى تاب وحلف بالأيمان المغلظة: ما يجد في نفسه مما يجد شيئاً.. وهذه الرواية تشي كذلك بأن غموض مدلولات هذه التعبيرات هو الذي جعل المتعنتين يستترون وراءها ويسألون عنها! وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر- رضي الله عنهم- ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد؛ ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك (كما قال ابن كثير). أقسم الله- سبحانه- بالرياح التي تذرو ما تذروه من غبار وحبوب لقاح وسحب وغيرها مما يعلم الإنسان وما يجهل. وبالسحاب الحاملات وقراً من الماء يسوقها الله به إلى حيث يشاء. وبالسفن الجاريات في يسر على سطح الماء بقدرته وبما أودع الماء وأودع السفن وأودع الكون كله من خصائص تسمح بهذا الجريان اليسير. ثم بالملائكة المقسمات أمراً، تحمل أوامر الله وتوزعها وفق مشيئته، فتفصل في الشؤون المختصة بها، وتقسم الأمور في الكون بحسبها. والريح والسحاب والسفن والملائكة خلق من خلق الله، يتخذها أداة لقدرته، وستاراً لمشيئته، ويتحقق عن طريقها قدر الله في كونه وفي عباده. وهو يقسم بها- سبحانه- للتعظيم من شأنها، وتوجيه القلوب إليها، لتدبر ما وراءها من دلالة؛ ولرؤية يد الله وهي تنشئها وتصرفها وتحقق بها قدر الله المرسوم. وذكرها على هذه الصورة بصفة خاصة يوجه القلب إلى أسرارها المكنونة؛ ويعلقه بمبدع هذه الخلائق من وراء ذكرها هذا الذكر الموحي. ثم لعل لها كذلك صلة من ناحية أخرى بموضوع الرزق، الذي يعنى سياق هذه السورة بتحرير القلب من أوهاقه، وإعفائه من أثقاله. فالرياح والسحب والسفن ظاهرة الصلة بالرزق ووسائله وأسبابه. أما الملائكة وتقسيمها للأمر، فإن الرزق أحد هذه القسم. ومن ثم تتضح الصلة بين هذا الافتتاح وموضوع بارز تعالجه السورة في مواضع شتى. يقسم الله- سبحانه- بهذه الخلائق الأربع على: {إن ما توعدون لصادق. وإن الدين لواقع}.. وقد وعد الله الناس: أنه مجازيهم بالإحسان إحساناً، ومجازيهم بالسوء سوءاً. وأنه إذا أمهلهم الحساب في الأرض، فليس بمهمل حسابهم في الآخرة فالحساب لا بد منه هناك! {وإن الدين لواقع}.. فالوعد صادق حتماً إما هنا وإما هناك.. ومما وعدهم كذلك الرزق وكفالته لهم مبسوطاً أو مقدراً- وفق مشيئته ووعده حق في هذا كما هو حق في كل شأن. ولا بد أن يتحقق ما وعد الله به الناس في الصورة التي يريدها، وفي الوقت الذي يريده، وما يحتاج الأمر إلى قسم منه- سبحانه- إنما يقسم بخلائقه تلك لتوجيه القلب إليها- كما تقدم- وتدبر ما وراءها من إبداع وقدرة وتدبير يوحي للقلب بأن وعد الله- بارئ هذه الخلائق بهذا النظام وهذا التقدير- لا بد صادق؛ وأن حسابه على الخير والشر والصلاح والفساد لا بد واقع. فإن طبيعة هذه الخلائق توحي بأن الأمر ليس عبثاً ولا مصادفة ولا جزافاً.. وهكذا تصبح تلك الخلائق آيات وبراهين ذات دلالة إيحائية قوية بفضل هذا القسم الذي يلفت القلب إليها لفتاً، ويوجه الحس إليها توجيهاً. فهي طريقة من طرق الإيحاء والتربية. ومخاطبة الفطرة بلغة الكون خطاباً مباشراً! والقسم الثاني كذلك.. {والسماء ذات الحبك، إنكم لفي قول مختلف، يؤفك عنه من أفك}.. يقسم بالسماء المنسقة المحكمة التركيب. كتنسيق الزرد المتشابك المتداخل الحلقات.. وقد تكون هذه إحدى هيئات السحب في السماء حين تكون موشاة كالزرد مجعدة تجعد الماء والرمل إذا ضربته الريح. وقد يكون هذا وضعاً دائماً لتركيب الأفلاك ومداراتها المتشابكة المتناسقة. يقسم بالسماء المنسقة المحبوكة على أنهم في قول مختلف، مضطرب لا قوام له ولا قرار، ولا ثبات له ولا استقرار، يصرف عنه من صرف ويبقى عليه من بقي، فلا استقرار عليه ولا توافق ولا ثبات. بل الحيرة دائمة والقلق لا يزال. وكذلك الباطل دائماً أرض مرجرجة مهتزة؛ وتيه لا معالم فيه ولا نور؛ وهو يتأرجح ولا يفيء إلى أصل ثابت، ولا ميزان دقيق. ولا يجتمع عليه أهله إلا لينصرفوا ويتفرقوا بعد حين؛ ويدب الخلاف بينهم والشقاق.. ويتضح اضطرابهم واختلافهم وما هم فيه من الأمر المريج: حين يعرض في ظل السماء ذات الحبك المنسقة التركيب. ثم يستطرد فيقرر أنهم يعيشون في أوهام وظنون في أمر الآخرة، لا يستندون فيها إلى حق أو يقين. فهم في قول مختلف في هذا الحق المبين. ثم يصور لهم ذلك اليوم في مشهد حي تتملاه العيون: {قتل الخراصون. الذين هم في غمرة ساهون. يسألون: أيان يوم الدين؟ يوم هم على النار يفتنون. ذوقوا فتنتكم، هذا الذي كنتم به تستعجلون}.. والخرص: الظن والتقدير الجزاف الذي لا يقوم على ميزان دقيق. والله- سبحانه- يدعو عليهم بالقتل. فيا للهول! ودعوة الله عليهم بالقتل قضاء بالقتل! {قتل الخراصون} ويزيد أمرهم وضوحاً: {الذين هم في غمرة ساهون} فهم مغمورون بالأضاليل والأوهام لا يفيقون ولا يستيقظون. والتعبير يلقي ظلاً خاصاً، يصور القوم مغمورين ساهين لا يشعرون بشيء مما حولهم ولا يتبينون. كأنهم سكارى مذهولون! ذلك أنهم لا يتبينون الأمر الواضح، الذي يراه ويوقن به كل واع غير مذهول؛ فهم {يسألون: أيان يوم الدين}؟ يسألون هكذا، لا طلباً للعلم والمعرفة، ولكن استنكاراً وتكذيباً، واستعباداً لمجيئه، يعبر عنه لفظ {أيان} المقصود! ومن ثم يعاجلهم بمشهدهم في هذا اليوم الذي يستبعدونه ويستنكرونه؛ وهم يحرقون بالنار كحرق المعدن لتمييز حقيقته: {يوم هم على النار يفتنون} ! ومعه التبكيت المؤلم في الموقف العصيب: {ذوقوا فتنتكم. هذا الذي كنتم به تستعجلون}.. فهذه المعاجلة هي الجواب اللائق بهذا التساؤل. وهذا العنف في المشهد هو المقابل للذهول والسهوة التي يعيش فيها الخراصون. وهو مصداق دعوة الله عليهم بالقتل في أشد صوره وأعنفها: يوم هم على النار يفتنون! وعلى الضفة الأخرى وفي الصفحة المقابلة يرتسم مشهد آخر، لفريق آخر، فريق مستيقن لا يخرص؛ تقي لا يتبجح؛ مستيقظ يعبد ويستغفر، ولا يقضي العمر في غمرة وذهول: {إن المتقين في جنات وعيون. آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين. كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون. وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}.. فهذا الفريق. فريق المتقين. الأيقاظ. الشديدي الحساسية برقابة الله لهم، ورقابتهم هم لأنفسهم. هؤلاء {في جنات وعيون}.. {آخذين ما آتاهم ربهم} من فضله وإنعامه، جزاء ما أسلفوا في الحياة الدنيا من عبادة لله كأنهم يرونه، ويقين منهم بأنه يراهم: {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين}.. ويصور إحسانهم صورة خاشعة، رفافة حساسة: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون}.. فهم الأيقاظ في جنح الليل والناس نيام، المتوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام لا يطعمون الكرى إلا قليلاً، ولا يهجعون في ليلهم إلا يسيرا. يأنسون بربهم في جوف الليل فتتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويخف بهم التطلع فلا يثقلهم المنام! قال الحسن البصري: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون}.. كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقله، ونشطوا فمدوا إلى السحر، حتى كان الاستغفار بسحر. وقال قتادة: قال الأحنف بن قيس: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون}.. كانوا لا ينامون إلا قليلاً. ثم يقول: لست من أهل هذه الآية! وقال الحسن البصري: كان الأحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بوناً بعيداً، إذ نحن قوم لا نبلغ أعمالهم. كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون. وعرضت عملي على عمل أهل النار، فإذا قوم لا خير فيهم، مكذبون بكتاب الله وبرسل الله مكذبون بكتاب الله وبرسل الله مكذبون بالبعث بعد الموت. فقد وجدت من خيرنا منزلة قوماً خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال رجل من بني تميم لأبي: يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا. ذكر الله تعالى قوماً فقال: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون}. ونحن والله قليلاً من الليل ما نقوم! فقال له أبي- رضي الله عنه-: طوبى لمن رقد إذا نعس، واتقى الله إذا استيقظ. فهي حال يتطلع إليها رجال من التابعين- ذوي المكانة في الإيمان واليقين- ويجدون أنفسهم دونها. اختص بها ناس ممن اختارهم الله، ووفقهم إلى القيام بحقها. وكتبهم بها عنده من المحسنين. وهذه حالهم مع ربهم، فأما حالهم مع الناس، وحالهم مع المال، فهو مما يليق بالمحسنين: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}.. فهم يجعلون نصيب السائل الذي يسأل فيعطى، ونصيب المحروم الذي يسكت ويستحي فيحرم. يجعلون نصيب هذا وهذا حقاً مفروضاً في أموالهم. وهم متطوعون بفرض هذا الحق غير المحدود. وهذه الإشارة تتناسق مع علاج السورة لموضوع الرزق والمال، لتخليص القلب من أوهاق الشح وأثقال البخل وعوائق الانشغال بالرزق. وتمهد للمقطع التالي في السورة، في الوقت الذي تكمل سمة المتقين وصورة المحسنين. {وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟ وفي السماء رزقكم وما توعدون. فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون}.. وهي لفتة إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس؛ وتوجيه إلى السماء في شأن الرزق المكتوب والحظ المقدور. تختم بقسم عظيم. قسم الله- سبحانه- بذاته بوصفه: {رب السماء والأرض} اللتين ورد ذكرهما في هذا المقطع. على أن هذا القول الذي جاءهم من عنده حق يقين.. {وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون}؟.. هذا الكوكب الذي نعيش عليه معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته. معرض لم نستجل منه حتى اللحظة إلا القليل من بدائعه. ونحن نكشف في كل يوم جديداً منه، ونطّلع منه على جديد.. ومثل هذا المعرض، معرض آخر مكنون فينا نحن.. النفس الإنسانية.. الخفية الأسرار، التي تنطوي فيها أسرار هذا الوجود كله، لا أسرار الكوكب الأرضي وحده! وإلى هذين المعرضين الهائلين تشير الآيتان تلك الإشارة المختصرة، التي تفتح هذين المعرضين على مصاريعهما لمن يريد أن يبصر، ولمن يريد أن يستيقن، ولمن يريد أن يملأ حياته حتى تفيض بالمتعة والمسرة، وبالعبرة الحية، وبالرصيد القيم من المعرفة الحقة، التي ترفع القلوب وتضاعف الأعمار! والنصوص القرآنية معدة للعمل في جميع الأوساط والبيئات والظروف والأحوال. قادرة على إعطاء رصيد معين لكل نفس ولكل عقل ولكل إدراك. كل بقدر ما يتقبل منها وما يطيق. وكلما ارتقى الإنسان في المعرفة، واتسعت مداركه، وزادت معلوماته، وكثرت تجاربه، واطلع على أسرار الكون وأسرار النفس.. ارتقى نصيبه، وتضخم رصيده، وتنوع زاده الذي يتلقاه من نصوص القرآن.. هذا الكتاب الذي «لا تنفد عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد» كما يقول عنه النبي الذي تلقاه واستوعب أسراره، وعاش بها. يقول عن تجربة حية وجدها في نفسه فعبر عنها ذلك التعبير- صلوات الله وسلامه عليه-. ولقد وجد الذين سمعوا هذا القرآن أول مرة من آيات الله في الأرض وآياته في النفس، نصيبهم، وتسلموا رصيدهم، وفق معارفهم وتجاربهم وإشراقات نفوسهم. ووجد كذلك كل جيل أتى بعدهم نصيباً يناسب ما تفتح له من أنواع العلوم والمعارف والتجارب. ونجد نحن نصيبنا وفق ما اتسع لنا من رقعة العلم والمعرفة والتجريب، وما تكشف لنا من أسرار لا تنفد في هذا الكون الكبير. وستجد الأجيال بعدنا نصيبها مدخراً لها من الآيات التي لم تكشف لنا بعد في الأرض والنفس. ويبقى هذان المعرضان الإلهيان الهائلان حافلين بكل عجيب وجديد إلى آخر الزمان. هذه الأرض. هذا الكوكب المعد للحياة، المجهز لاستقبالها وحضانتها بكل خصائصه، على نحو يكاد يكون فريداً في المعروف لنا في محيط هذا الكون الهائل، الحافل بالنجوم الثوابت والكواكب السيارة. التي يبلغ عدد المعروف منها فقط- والمعروف نسبة لا تكاد تذكر في حقيقة الكون- مئات الملايين من المجرات التي تحوي الواحدة منها مئات الملايين من النجوم. والكواكب هي توابع هذه النجوم! ومع هذه الأعداد التي لا تحصى فإن الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته. ولو اختلت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جداً لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها.. لو تغير حجمها صغراً أو كبراً، لو تغير وضعها من الشمس قرباً أو بعداً. لو تغير حجم الشمس ودرجة حرارتها. لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا. لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطأ. لو تغير حجم القمر- تابعها- أو بعده عنها. لو تغيرت نسبة الماء واليابس فيها زيادة أو نقصاً... لو. لو. لو... إلى آلاف الموافقات المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته. أليست هذه آية أو آيات معروضة في هذا المعرض الإلهي؟ ثم. هذه الأقوات المذخورة في الأرض للأحياء التي تسكنها. تسكن سطحها، أو تسبح في أجوائها، أو تمخر ماءها، أو تختبئ في مغاورها وكهوفها، أو تختفي في مساربها وأجوافها.. هذه الأقوات الجاهزة المركبة والبسيطة والقابلة للوجود في شتى الأشكال والأنواع لتلبي حاجة هذه الأحياء التي لا تحصى، ولا تحصى أنواع غذائها أيضاً. . هذه الأقوات الكامنة في جوفها، والساربة في مجاريها، والسابحة في هوائها، والنابتة على سطحها، والقادمة إليها من الشمس ومن عوالم أخرى بعضها معروف وبعضها مجهول، ولكنها تتدفق وفق تدبير المشيئة المدبرة التي خلقت هذا المحضن لهذا النوع من الحياة، وجهزته بكل ما يلزم للأنواع الكثيرة التي لا تحصى. وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها، حيثما امتد الطرف، وحيثما تنقلت القدم. وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفد: من وهاد وبطاح، ووديان وجبال؛ وبحار وبحيرات، وأنهار وغدران. وقطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان.. وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير. ويمر به الإنسان وهو ممحل فإذا هو مشهد، ويمر به وهو ممرع فإذا هو مشهد آخر. ويراه وهو نبت خضر فإذا هو مشهد، ويراه إبان الحصاد حين يهيج ويصفر فإذا هو مشهد آخر. وهو هو لم ينتقل باعاً ولا ذراعاً في المكان! والخلائق التي تعمر هذه الأرض من الأحياء. نباتاً وحيواناً. وطيراً وسمكاً، وزواحف وحشرات.. بله الإنسان فالقرآن يفرده بنص خاص.. هذه الخلائق التي لم يعرف عدد أنواعها وأجناسها بعد- فضلاً على إحصاء أعدادها وأفرادها وهو مستحيل- وكل خليقة منها أمة! وكل فرد منها عجيبة. كل حيوان. كل طائر. كل زاحفة. كل حشرة. كل دودة. كل نبتة: لا بل كل جناح في يرقة، وكل ورقة في زهرة، وكل قصبة في ورقة! في ذلك المعرض الإلهي العجيب الذي لا تنقضي عجائبه. ولو مضى الإنسان- بل لو مضى الأناسي جميعاً- يتأملون هكذا ويشيرون مجرد إشارة إلى ما في الأرض من عجائب، وإلى ما تشير إليه هذه العجائب من آيات، ما انتهى لهم قول ولا إشارة. والنص القرآني ما يزيد على أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر، واستجلاء العجائب في هذا المعرض الهائل، طوال الرحلة على هذا الكوكب؛ والمتعة بما في هذا الاستجلاء من مسرة طوال الرحلة. غير أنه لا يدرك هذه العجائب، ولا يستمتع بالرحلة هذا المتاع، إلا القلب العامر باليقين. {وفي الأرض آيات للموقنين}.. فلمسة اليقين هي التي تحيي القلب فيرى ويدرك؛ وتحيي مشاهد الأرض فتنطق للقلب بأسرارها المكنونة، وتحدثه عما وراءها من تدبير وإبداع. وبدون هذه اللمسة تظل تلك المشاهد ميتة جامدة جوفاء؛ لا تنطق للقلب بشيء؛ ولا تتجاوب معه بشيء. وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب. لا يحسون فيه حياة، ولا يفقهون له لغة؛ لأن لمسة اليقين لم تحي قلوبهم، ولم تبث الحياة فيما حولهم! وقد يكون منهم علماء. {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا}. أما حقيقتها فتظل محجوبة عن قلوبهم، فالقلوب لا تفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان، ولا تراها إلا بنور اليقين.. وصدق الله العظيم. ثم العجيبة الأخرى التي تدب على هذه الأرض: {وفي أنفسكم، أفلا تبصرون؟}.. وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض. ولكنه يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين. إنه عجيبة في تكوينه الجسماني: في أسرار هذا الجسد. عجيبة في تكوينه الروحي: في أسرار هذه النفس. وهو عجيبة في ظاهره وعجيبة في باطنه. وهو يمثل عناصر هذا الكون وأسراره وخفاياه: وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى بأسرار تدهش وتحير. تكوين أعضائه وتوزيعها. وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف. عملية الهضم والامتصاص. عملية التنفس والاحتراق. دورة الدم في القلب والعروق. الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم. الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد ونشاطه وانتظامه. تناسق هذه الأجهزة كلها وتعاونها، وتجاوبها الكامل الدقيق. وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب. وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحير الألباب. وأسرار روحه وطاقاتها المعلومة والمجهولة.. إدراكه للمدركات وطريقة إدراكها وحفظها وتذكرها. هذه المعلومات والصور المختزنة. أين؟ وكيف؟ هذه الصور والرؤى والمشاهد كيف انطبعت؟ وأين؟ وكيف تُستدعى فتجيء.. وذلك في الجانب المعلوم من هذه القوى. فأما المجهول منها فهو أكبر وأكثر. تظهر آثاره بين الحين والحين في لمسات وإشراقات تدل على ما وراء الظاهر من المغيب المجهول. ثم أسرار هذا الجنس في توالده وتوارثه. خلية واحدة تحمل كل رصيد الجنس البشري من الخصائص؛ وتحمل معها خصائص الأبوين والأجداد القريبين. فأين تكمن هذه الخصائص في تلك الخلية الصغيرة؟ وكيف تهتدي بذاتها إلى طريقها التاريخي الطويل، فتمثله أدق تمثيل، وتنتهي إلى إعادة هذا الكائن الإنساني العجيب؟! وإن وقفه أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته على الأرض، وهو ينفصل عن أمه ويعتمد على نفسه، ويؤذن لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة. إن وقفة أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحركة لتدهش العقول وتحير الألباب، وتغمر النفس بفيض من الدهش وفيض من الإيمان، لا يقف له قلب ولا يتماسك له وجدان! وإن وقفة أخرى أمام اللحظة التي يتحرك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطع والكلمات ثم بالعبارات. بل أمام النطق ذاته. نطق هذا اللسان. وتصويت تلك الحنجرة. إنها عجيبة. عجيبة تفقد وقعها لأنها تمر بنا كثيراً. ولكن الوقوف أمامها لحظة في تدبر يجدد وقعها. إنها خارقة. خارقة مذهلة تنبئ عن القدرة التي لا تكون إلا لله. وكل جزئية في حياة هذا المخلوق تقفنا أمام خارقة من الخوارق، لا ينقضي منها العجب؛ {وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟}.. وكل فرد من هذا الجنس عالم وحده. ومرآة ينعكس من خلالها هذا الوجود كله في صورة خاصة لا تتكرر أبداً على مدار الدهور. ولا نظير له بين أبناء جنسه جميعاً لا في شكله وملامحه، ولا في عقله ومداركه، ولا في روحه ومشاعره. ولا في صورة الكون كما هي في حسه وتصوره. ففي هذا المتحف الإلهي العجيب الذي يضم ملايين الملايين، كل فرد نموذج خاص، وطبعة فريدة لا تتكرر. يمر من خلالها الوجود كله في صورة كذلك لا تتكرر. كما لا توجد بصمة أصابع مماثلة لبصمة أصابع أخرى في هذه الأرض في جميع العصور! وكثير من عجائب الجنس البشري مكشوفة للبصر، تراه العيون: {وفي أنفسكم. أفلا تبصرون؟}: وما تراه العيون من عجائبه يشير إلى المغيب المكنون. وهذه العجائب لا يحصرها كتاب. فالمعلوم المكشوف منها يحتاج تفصيله إلى مجلدات. والمجهول منها ما يزال أكثر من المعلوم، والقرآن لا يحصيها ولا يحصرها. ولكنه يلمس القلب هذه اللمسة ليستيقظ لهذا المتحف الإلهي المعروض للأبصار والبصائر. وليقضي رحلته على هذا الكوكب في ملاحظة وتدبر، وفي متاع رفيع بتأمل هذا الخلق العجيب، الكامن في ذات نفسه وهو عنه غافل مشغول. وإنها للحظات ممتعة حقاً تلك التي يقضيها الإنسان يتأمل وجوه الخلق وسماتهم وحركاتهم وعاداتهم، بعين العابد السائح الذي يجول في متحف من إبداع أحسن الخالقين. فكيف بمن يقضي عمره كله في هذا المتاع الرفيع؟ إن القرآن بمثل هذه اللمسة يخلق الإنسان خلقاً جديداً، بحس جديد؛ ويمتعه بحياة جديدة، ويهبه متاعاً لا نظير له في كل ما يتصوره في الأرض من متاع. وعلى هذا النحو الرفيع من التأمل والإدراك يريد القرآن الناس. والإيمان هو الذي يمنح القلب البشري هذا الزاد، وهو الذي يهيئ له هذا المتاع العلوي. وهو بعد في الأرض في عالم الطين! وبعد فقد كانت اللفتة الأولى إلى معرض الأرض؛ وكانت اللفتة الثانية إلى معرض النفس. ثم تلتهما في السورة لفتة إلى معرض الغيب العلوي المطوي، حيث الرزق المقسوم والحظ المرسوم: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}.. وهي لفتة عجيبة. فمع أن أسباب الرزق الظاهرة قائمة في الأرض، حيث يكد فيها الإنسان ويجهد، وينتظر من ورائها الرزق والنصيب. فإن القرآن يرد بصر الإنسان ونفسه إلى السماء. إلى الغيب. إلى الله. ليتطلع هنالك إلى الرزق المقسوم والحظ المرسوم. أما الأرض وما فيها من أسباب الرزق الظاهرة، فهي آيات للموقنين. آيات ترد القلب إلى الله ليتطلع إلى الرزق من فضله؛ ويتخلص من أثقال الأرض وأوهاق الحرص، والأسباب الظاهرة للرزق، فلا يدعها تحول بينه وبين التطلع إلى المصدر الأول الذي أنشأ هذه الأسباب. والقلب المؤمن يدرك هذه اللفتة على حقيقتها؛ ويفهمها على وضعها؛ ويعرف أن المقصود بها ليس هو إهمال الأرض وأسبابها. فهو مكلف بالخلافة فيها وتعميرها. إنما المقصود هو ألا يعلق نفسه بها، وألا يغفل عن الله في عمارتها. ليعمل في الأرض وهو يتطلع إلى السماء. وليأخذ بالأسباب وهو يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه، فرزقه مقدر في السماء، وما وعده الله لا بد أن يكون. بذلك ينطلق قلبه من إسار الأسباب الظاهرة في الأرض؛ بل يرف بأجنحة من هذه الأسباب إلى ملكوت السماوات. حين يرى في الأسباب آيات تدله على خالق الأسباب ويعيش موصولاً قلبه بالسماء. وقدماه ثابتتان على الأرض. فهكذا يريد الله لهذا الإنسان. هكذا يريد الله لذلك المخلوق الذي جبله من طين ونفخ فيه من روحه فإذا هو مفضل على كثير من العالمين. والإيمان هو الوسيلة لتحقيق ذلك الوضع الذي يكون فيه الإنسان في أفضل حالاته. لأنه يكون حينئذ. في الحالة التي أنشأه الله لها. فطرة الله التي فطر الناس عليها. قبل أن يتناولها الفساد والانحراف.. وبعد هذه اللمسات الثلاث في الأرض والنفس والسماء. يقسم الله سبحانه بذاته العلية على صدق هذا الحديث كله: {فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون}.. وكونهم ينطقون، حقيقة بين أيديهم، لا يجادلون فيها ولا يمارون، ولا يرتابون فيها ولا يخرصون.. وكذلك هذا الحديث كله. والله أصدق القائلين. وقد روى الأصمعي نادرة ذكرها الزمخشري في الكشاف، ونسوقها نحن لطرافتها- في تحفظ من جانب الرواية!- قال: «أقبلت من جامع البصرة، فطلع أعرابي على قعود له. فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. فقال: اتل عليّ. فتلوت: {والذاريات}.. فلما بلغت قوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} قال: حسبك! فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر؛ وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى! فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف؛ فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق. فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر. فسلم عليَّ واستقرأ السورة. فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: {فورب السماء والأرض إنه لحق}.. فصاح قال: يا سبحان الله. من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين! قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه».. وهي نادرة تصح أو لا تصح. ولكنها تذكرنا بجلال هذا القسم من الله سبحانه. القسم بذاته. بصفته: رب السماء والأرض. مما يزيد الحقيقة المقسم عليها جلالاً. وهي حقيقة بلا قسم ولا يمين. ذلك كان القطاع الأول في السورة. أما القطاع الثاني فيشمل تلك الإشارات إلى قصص إبراهيم، ولوط، وموسى، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وقوم نوح.. وهو مرتبط بما قبله، ومرتبط كذلك بما بعده في سياق السورة. {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين؟ إذ دخلوا عليه، فقالوا: سلاماً. قال: سلام قوم منكرون. فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين. فقربه إليهم قال: ألا تأكلون؛ فأوجس منهم خيفة. قالوا: لا تخف، وبشروه بغلام عليم. فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها، وقالت: عجوز عقيم. قالوا: كذلك قال ربك، إنه هو الحكيم العليم. قال: فما خطبكم أيها المرسلون؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، لنرسل عليهم حجارة من طين. مسومة عند ربك للمسرفين. فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين. فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين. وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}.. إنها آية أو آيات في تاريخ الرسالات. كتلك الآيات التي أشار إليها في الأرض وفي الأنفس. وإنه وعد أو وعود تتحقق من تلك الوعود التي أشار إلى تحققها في القطاع السابق. ويبدأ الحديث عن إبراهيم بالسؤال: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين؟}.. تنويهاً بهذا الحديث، وتهيئة للأذهان. مع وصف ضيف إبراهيم بالمكرمين؛ إما لأنهم كذلك عند الله؛ وإما إشارة إلى إكرام إبراهيم لهم كما ورد في القصة. ويبدو كرم إبراهيم وسخاؤه وإرخاصه للمال واضحاً. فما يكاد ضيفه يدخلون عليه ويقولون: سلاماً. ويرد عليهم السلام، وهو ينكرهم ولا يعرفهم. ما يكاد يتلقى السلام ويرده حتى يذهب إلى أهله- أي زوجه- مسارعاً ليهيئ لهم الطعام. ويجيء به طعاماً وفيراً يكفي عشرات: {فراغ إلى أهله فجآء بعجل سمين}.. وهم كانوا ثلاثة فيما يقال.. تكفيهم كتف من هذا العجل السمين! {فقربه إليهم. قال: ألا تأكلون؟}.. وجاء هذا السؤال بعد أن رأى أيديهم لا تصل إليه، ولا يبدو عليهم أنهم سيأكلون طعامه. {فأوجس منهم خيفة}.. إما لأن الطارئ الذي لا يأكل طعام مضيفه ينبئ عن نية شر وخيانة. وإما لأنه لمح أن فيهم شيئاً غريباً! عندئذ كشفوا له عن حقيقتهم أو طمأنوه وبشروه: {قالوا: لا تخف. وبشروه بغلام عليم}.. وهي البشارة بإسحاق من زوجه العقيم. {فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها. وقالت: عجوز عقيم}.. وقد سمعت البشرى، فبغتت وفوجئت، فندت منها صيحة الدهش، وعلى عادة النساء ضربت خديها بكفيها.. وقالت عجوز عقيم. تنبئ عن دهشتها لهذه البشرى وهي عجوز. وقد كانت من الأصل عقيماً. وقد أخذتها المفاجأة العنيفة التي لم تكن تتوقعها أبداً، فنسيت أن البشرى تحملها الملائكة! عندئذ ردها المرسلون إلى الحقيقة الأولى. حقيقة القدرة التي لا يقيدها شيء، والتي تدبر كل أمر بحكمة وعلم: {قالوا: كذلك قال ربك، إنه هو الحكيم العليم}.. وكل شيء يكون إذا قيل له: كن. وقد قال الله. فماذا بعد قوله؟ إن الألفة والعادة تقيدان الإدراك البشري، وتحدان من تصوراته. فيدهش إذ يرى ما يخالف المألوف له؛ ويعجب كيف يكون؛ وقد يتبجح فينكر أن يكون! والمشيئة المطلقة ماضية في طريقها لا تتقيد بمألوف البشر الصغير المحدود؛ تبدع ما تشاء، بغير ما حدود أو قيود! عند ذلك راح إبراهيم يسأل وقد عرف حقيقة ضيفه عن شأنهم الذي أرسلوا فيه: {قال: فما خطبكم أيها المرسلون؟}. . {قالوا: انا أرسلنا إلى قوم مجرمين}.. هم قوم لوط. كما ورد في سور أخرى. {لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومة عند ربك للمسرفين}.. وهذه الحجارة الطينية المعلمة أو المعدة المجهزة عند الله للمسرفين المتجاوزين الحق- وقوم لوط كانوا مسرفين في تجاوزهم للفطرة والحق والدين- لا يمتنع أن تكون حجارة بركان ثائر يقذف بالحمم الطيني من جوف الأرض. فهي {عند ربك} بهذا الاعتبار مسلطة- وفق إرادته ونواميسه- على من يريد من المسرفين. مقدرة بزمانها ومكانها وفق علمه وتدبيره القديم. وأن يتولى إرسالها- في إطار إرادته ونواميسه- ملائكته. وهل ندري نحن حقيقة ملائكته؟ وهل ندري حقيقة علاقتهم بهذا الكون ومن فيه وما فيه؟ وهل ندري حقيقة القوى الكونية التي نسميها من عندنا أسماء بحسب ظواهرها التي تتكشف لنا بين الحين والحين؟ وما لنا نعترض على خبر الله لنا أنه سلط بعض هذه القوى في وقت ما، لترسل بعض هذه القوى في صورة ما، على قوم ما، في أرض ما، ما لنا نعترض على خبر الله لنا، ونحن ما نزال كل ذخيرتنا من المعرفة فروض ونظريات وتأويلات لظواهر تلك القوى. أما حقيقتها فهي عنا بعيدة؟! فلتكن حجارة بركانية أو لتكن حجارة أخرى فهذه كتلك في يد الله، ومن صنعه، وسرها غيب عنده يكشفه حين يشاء! {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين}.. لإنجائهم وحمايتهم.. {فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين}: هم بيت النبي لوط. كما ورد في مواضع أخرى. فكانوا هم الناجين إلا امرأته كانت من المهلكين. {وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}.. فالذين يخافون هم الذين يرون الآية ويدركونها وينتفعون بها. أما الآخرون فمطموسون لا يرون آيات الله. لا في الأرض ولا في أنفسهم ولا في أحداث التاريخ! وآية أخرى في قصة موسى، يشير إليها إشارة سريعة في معرض الآيات في تاريخ المرسلين: {وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين. فتولى بركنه وقال: ساحر أو مجنون. فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم، وهو مليم}.. والسلطان المبين الذي أرسل الله به موسى إلى فرعون، هو الحجة القوية، والبرهان القاطع، وهو الهيبة الجليلة التي خلعها عليه. وهو معهما يسمع ويرى. ولكن فرعون تولى بركنه، وازور بجانبه عن الحق الواضح والبرهان القاطع؛ وقال عن موسى النبي الذي كشف له عن آيات الله الخوارق: {ساحر أو مجنون}.. مما يقطع بأن الآيات والخوارق لا تهدي قلباً لم يتأهب للهدى؛ ولا تقطع لساناً يصر على الباطل ويفتري. ولا يطيل السياق هنا في عرض تفصيلات القصة؛ فيمضي إلى نهايتها التي تتجلى فيها الآية الباقية المذكورة في التاريخ: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم}.. أي مستحقاً للوم على ما كان منه من طغيان ومن تكذيب. وواضح في التعبير فعل الله المباشر في أخذه هو وقومه، وفي نبذهم في اليم. وهو الإيقاع المقصود لإبراز آية الله في موسى. في معرض آياته في الأرض والأنفس وتاريخ الرسالات والمرسلين. وآية أخرى في عاد: {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم. ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم}.. وسميت الريح التي أرسلت على عاد عقيماً لأنها لم تكن تحمل ماء ولا حياة كما توقعوا. إنما تحمل الموت والدمار. وتترك كل شيء تأتي عليه كالميت الذي رمّ وتحول إلى فتات! والريح قوة من قوى هذا الكون. وجند من جند الله. وما يعلم جنود ربك إلا هو. يرسلها- في إطار مشيئته وناموسه- في صورة ما من صورها، وفي الوقت المقدر، على من يريد، بالهلاك والدمار، أو بالحيا والحياة. ولا مكان في مثل هذه المواضع للاعتراض السطحي الساذج، بالقول بأن الريح تجري وفق نظام كوني؛ وتهب هنا أو هناك تبعاً لعوامل طبيعية. فالذي يجريها وفق ذلك النظام وتبع هذه العوامل هو الذي يسلطها على من يشاء عندما يشاء وفق تقديره وتدبيره. وهو قادر على أن يسلطها كما يريد في إطار النظام الذي قدره والعوامل التي جعلها. ولا مخالفة ولا شبهة ولا اعتراض! وآية ثالثة في ثمود: {وفي ثمود إذ قيل لهم: تمتعوا حتى حين. فعتوا عن أمر ربهم، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون. فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين}.. والإشارة في قوله: {إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين}.. قد تعني إمهالهم ثلاثة أيام بعد قتل الناقة. وهو ما ورد في الآية: {فقال: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام}.. وقد تعني ما قدر لهم من المتاع منذ الرسالة إلى أن قتلوا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، فحق عليهم الهلاك. وما يقال في الحجارة التي أرسلت على قوم لوط، وفي الريح التي أرسلت على عاد، يقال في الصاعقة التي أرسلت على ثمود. فكلها قوى كونية مدبرة بأمر الله، مسخرة بمشيئته وبنواميسه. يسلطها على من يشاء في إطار تلك النواميس. فتؤدي دورها الذي يكلفها الله. كأي جند من جند الله. وآية رابعة في قوم نوح: {وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوماً فاسقين}.. وهي إشارة سريعة تلمس القصة لمسة واحدة بدون إيضاح. كأنما ليقال: واذكر قوم نوح. وقد وردت «قومَ» منصوبة وبدون لفظ «في» بتقدير كلمة «اذكر» قبلها. وتلتها {والسماء بنيناها..} معطوفة عليها.. وهذه آية كونية، وتلك آية تاريخية. يربطهما السياق معاً، ويربط بهما هذا القطاع بالقطاع الثالث في السورة.. {والسمآء بنيناها بأيد، وإنا لموسعون، والأرض فرشناها فنعم الماهدون، ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون. ففروا إلى الله، إني لكم منه نذير مبين. ولا تجعلوا مع الله إلها آخر، إني لكم منه نذير مبين}.. إنها عودة إلى المعرض الكوني الذي افتتحت به السورة، في صورة من صوره الكثيرة التي يجلوها القرآن للقلوب. واستطراد في الإشارة إلى آيات الله هنا وهناك، يصل آية نوح بآية السماء وآية الأرض وآية الخلائق. ثم يخلص به إلى ذلك الهتاف بالبشر ليفروا إلى الله موحدين متجردين. {والسمآء بنيناها بأيد، وإنا لموسعون}.. والأيد: القوة. والقوة أوضح ما ينبئ عنه بناء السماء الهائل المتماسك المتناسق. بأي مدلول من مدلولات كلمة السماء. سواء كانت تعني مدارات النجوم والكواكب. أم تعني مجموعة من المجموعات النجمية التي يطلق عليها اسم المجرة وتحوي مئات الملايين من النجوم. أم تعني طبقة من طبقات هذا الفضاء الذي تتناثر فيه النجوم والكواكب.. أم غير هذا من مدلولات كلمة السماء. والسعة كذلك ظاهرة فهذه النجوم ذات الأحجام الهائلة والتي تعد بالملايين، لا تعدو أن تكون ذرات متناثرة في هذا الفضاء الرحيب. ولعل في الإشارة إلى السعة إيحاء آخر إلى مخازن الأرزاق التي قال من قبل: إنها في السماء ولو أن السماء هناك مجرد رمز إلى ما عند الله. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالاً معينة، يبدو أنها مقصودة في التعبير، لخطاب المشاعر البشرية خطاباً موحياً. ومثلها الإشارة الأخرى إلى الأرض الممهودة المفروشة: {والأرض فرشناها. فنعم الماهدون}.. فقد أعد الله هذه الأرض لتكون مهداً للحياة كما أسلفنا. والفرش يوحي باليسر والراحة والعناية. وقد هيئت الأرض لتكون محضناً ميسراً ممهداً، كل شيء فيه مقدر بدقة لتيسير الحياة وكفالتها: {فنعم الماهدون}.. {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون}.. وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض- وربما في هذا الكون. إذ أن التعبير لا يخصص الأرض- قاعدة الزوجية في الخلق. وهي ظاهرة في الأحياء. ولكن كلمة {شيء} تشمل غير الأحياء أيضاً. والتعبير يقرر أن الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجية. وحين نتذكر أن هذا النص عرفه البشر منذ أربعة عشر قرناً. وأن فكرة عموم الزوجية- حتى في الأحياء- لم تكن معروفة حينذاك. فضلاً على عموم الزوجية في كل شيء.. حين نتذكر هذا نجدنا أمام أمر عجيب عظيم.. وهو يطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكرة كل التبكير! كما أن هذا النص يجعلنا نرجح أن البحوث العلمية الحديثة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة. وهي تكاد تقرر أن بناء الكون كله يرجع إلى الذرة. وأن الذرة مؤلفة من زوج من الكهرباء: موجب وسالب! فقد تكون تلك البحوث إذن على طريق الحقيقة في ضوء هذا النص العجيب. وفي ظل هذه اللمسات القصيرة العبارة الهائلة المدى: في أجواز السماء، وفي آماد الأرض، وفي أعماق الخلائق. يهتف بالبشر ليفروا إلى خالق السماء والأرض والخلائق، متجردين من كل ما يثقل أرواحهم ويقيدها؛ موحدين الله الذي خلق هذا الكون وحده بلا شريك. {ففروا إلى الله، إني لكم منه نذير مبين. ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر، إني لكم منه نذير مبين}.. والتعبير بلفظ الفرار عجيب حقاً. وهو يوحي بالأثقال والقيود والأغلال والأوهاق، التي تشد النفس البشرية إلى هذه الأرض، وتثقلها عن الانطلاق، وتحاصرها وتأسرها وتدعها في عقال. وبخاصة أوهاق الرزق والحرص والانشغال بالأسباب الظاهرة للنصيب الموعود. ومن ثم يجيء الهتاف قوياً للانطلاق والتملص والفرار إلى الله من هذه الأثقال والقيود! الفرار إلى الله وحده منزهاً عن كل شريك. وتذكير الناس بانقطاع الحجة وسقوط العذر: {إني لكم منه نذير مبين}.. وتكرار هذا التنبيه في آيتين متجاورتين، زيادة في التنبيه والتحذير! وكأنما كانت هذه الإشارة إلى آية السماء وآية الأرض وآية الخليقة استطراداً مع آيات الرسالات والرسل. فلما انتهت جاء التعقيب على قصص الرسل التي سلفت في السياق: {كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا: ساحر أو مجنون. أتواصوا به؟ بل هم قوم طاغون. فتول عنهم فمآ أنت بملوم. وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}.. فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين؛ وهو استقبال واحد للحق والرسل يستقبلهم به المنحرفون: {كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا: ساحر أو مجنون}.. كما يقول هؤلاء المشركون! كأنما تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون! وما تواصوا بشيء إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد تجمع بين الغابرين واللاحقين! والنتيجة الطبيعية التي تترتب على هذا الموقف المكرور، الذي كأنما تواصى به الطاغون على مدار القرون، ألا يحفل الرسول- صلى الله عليه وسلم- تكذيب المشركين. فهو غير ملوم على ضلالهم، ولا مقصر في هدايتهم: {فتول عنهم فمآ أنت بملوم}.. إنما هو مذكر، فعليه أن يذكر، وأن يمضي في التذكير، مهما أعرض المعرضون وكذب المكذبون: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}.. ولا تنفع غيرهم من الجاحدين. والتذكير هو وظيفة الرسل. والهدى والضلال خارجان عن هذه الوظيفة، والأمر فيهما إلى الله وحده. الذي خلق الناس لأمر يريده. هنا يجيء الإيقاع الأخير في السورة. ويتضح معنى الفرار إلى الله، والتخلص من الأوهاق والأثقال، لأداء الوظيفة التي خلق الله العباد لها، ومنحهم وجودهم ليؤدوها: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.. وإن هذا النص الصغير ليحتوي حقيقة ضخمة هائلة، من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر في الأرض بدون إدراكها واستيقانها. سواء كانت حياة فرد أم جماعة. أم حياة الإنسانية كلها في جميع أدوارها وأعصارها. وإنه ليفتح جوانب وزوايا متعددة من المعاني والمرامي، تندرج كلها تحت هذه الحقيقة الضخمة، التي تعد حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة. وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس. تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده؛ ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده؛ وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد، خاوية من معناها الأصيل، الذي تستمد منه قيمتها الأولى. فقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود، وانتهى إلى الضياع المطلق، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء. هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود. هي العبادة لله. أو هي العبودية لله.. أن يكون هناك عبد ورب. عبد يَعبد، ورب يُعبد. وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار. ومن ثم يبرز الجانب الآخر لتلك الحقيقة الضخمة، ويتبين أن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر. فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر؛ والله لا يكلفهم هذا. وهو يكلفهم ألواناً أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم. وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجن؛ ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان. نعرفها من القرآن من قول الله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة} فهي الخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني. وهي تقتضي ألواناً من النشاط الحيوي في عمارة الأرض، والتعرف إلى قواها وطاقاتها، وذخائرها ومكنوناتها، وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها. كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام. ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر؛ وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعاً. وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين: الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبداً ورباً. عبداً يَعبد، ورباًّ يُعبد. وأن ليس وراء ذلك شيء؛ وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود؛ وإلا رب واحد والكل له عبيد. والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة. التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله. بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة؛ ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله.. كلها عبادة؛ وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها؛ وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه. عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعراً أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى، جاء لينهض بها فترة، طاعة لله وعبادة له لا أرب له هو فيها، ولا غاية له من ورائها، إلا الطاعة، وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله، ومن أنس برضى الله عنه، ورعايته له. ثم يجده في الآخرة تكريماً ونعيماً وفضلاً عظيماً. وعندئذ يكون قد فر إلى الله حقاً. يكون قد فر من أوهاق هذه الأرض وجواذبها المعوقة ومغرياتها الملفتة. ويكون قد تحرر بهذا الفرار. تحرر حقيقة من الأوهاق والأثقال. وخلص لله، واستقر في الوضع الكوني الأصيل: عبداً لله. خلقه الله لعبادته. وقام بما خلق له. وحقق غاية وجوده. فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض، وينهض بتكاليفها، ويحقق أقصى ثمراتها؛ وهو في الوقت ذاته نافض يديه منها؛ خالص القلب من جواذبها ومغرياتها. ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها. ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها، ثم الفرار إلى الله منها! ومن مقتضياته كذلك أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها. فلتكن النتائج ما تكون. فالإنسان غير معلق بهذه النتائج. إنما هو معلق بأداء العبادة في القيام بهذه الأعمال؛ ولأن جزاءه ليس في نتائجها، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها.. ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيراً كاملاً تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال. فينظر فيها كلها إلى معنى العبادة الكامن فيها. ومتى حقق هذا المعنى انتهت مهمته وتحققت غايته. ولتكن النتائج ما تكون بعد ذلك. فهذه النتائج ليست داخلة في واجبه ولا في حسابه، وليست من شأنه. إنما هو قدر الله ومشيئته. وهو وجهده ونيته وعمله جانب من قدر الله ومشيئته: ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد، وشعر أنه أخذ نصيبه، وضمن جزاءه، بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل والجهد، فلن تبقى في قلبه حينئذ بقية من الأطماع التي تدعوا إلى التكالب والخصام على أعراض هذه الحياة. فهو من جانب يبذل أقصى ما يملك من الجهد والطاقة في الخلافة والنهوض بالتكاليف. ومن جانب ينفض يده وقلبه من التعلق بأعراض هذه الأرض، وثمرات هذا النشاط. فقد حقق هذه الثمرات ليحقق معنى العبادة فيها لا ليحصل عليها ويحتجزها لذاته.
|